زياد الرحباني العبقري الثائر وصوته الصاخب في قلب لبنان
وُلد زياد الرحباني في 1 يناير 1956 في أنطلياس، لبنان، ابن الفنانين الأسطوريين عاصي الرحباني وفيروز (نهاد حداد).
منذ طفولته، كان مغرماً بالموسيقى؛ حتى أن والده ساند مساره الفني منذ السادسة من عمره .
أوّل أعماله الفنية كان قصيدته «صديقي الله» التي كتبها بين عامي 1967–1968، تلتها أولى ألحانه في سنّ الرابعة عشرة بعنوان «ضلّك حبّيني يا لوزية»، وغنّتها خالته الموهوبة هدى حداد.
في عام 1973 وعندما كان والده في المستشفى وضع زياد ألحانه لأول أداء له لفيروز، أغنية "سألوني الناس"، التي حققت انتشاراً واسعاً وأطلقت انطلاقته الفنية الرسمية.
زياد الرحباني - المسرح والموسيقى الراديكالية
ظهوره المسرحي الأول كان بدور شرطي في مسرحيتي "المحطة" و"ميس الريم". وفي نفس الفترة، كتب ولحن مسرحياته الخاصة مثل "سهرية" (1973)، "نزل السرور" (1974)، و"بالنسبة لبكرا شو؟" (1978)، بالإضافة إلى "فيلم أميركي طويل" (1980) و"شي فاشل" (1983).
أعماله المسرحية كانت نقدية لاذعة تطال السياسة والمجتمع بأسلوب ساخر وفكاهي شديد العُمق.
على صعيد الموسيقى، أنتج زياد ألبومات متميزة أسهمت في تشكيل "الجاز الشرقي"، مزجاً بين الألحان العربية والارتجال الغربي، مثل أبو علي.
كما تعاون مع فنانين من الصف الأول أمثال لطيفة، سامي حواط، جوزيف صقر .
الشاعر الساخط والمعلق السياسي
كان زياد ناشطاً بمحطات إذاعية سياسية وفكرية منها، "بعدنا طيبين قول الله" (1976) و"العقل زينة" (1987)، عبر خلالها عن مواقفه النقدية المناهضة للفساد والطائفية، واعتنق الفكر اليساري بوضوح.
زياد الرحباني - حياته العاطفية صخب داخلي وحكايات غير مكتملة
في حياته الشخصية عاش زياد قصة حب معقدة؛ تزوّج من دلال كرم وانتهى الزواج بحالة من الألم والاعتراف بالفشل، مما دفعه إلى تأليف أغاني تعكس تجربته مثل "مربى الدلال" و"بصراحة".
لاحقاً دخل في علاقة دامت 15 عاماً مع الفنانة كارمن لبس، لكنها لم تكتب لها النهاية السعيدة أيضاً؛ فالاستقرار ما لبث أن ابتعد عن حياته.
هل أنتهى زمن الرحابنة بموت زياد؟
بعد وفاة زياد الرحباني في 26 يوليو 2025، لا يمكن القول بأن عصر الرحابنة الفني انتهى نهائياً، بل يُمكن القول إن هذا العصر دخل مرحلة جديدة من التأمل والإبداع المستمر عبر الأجيال.
زياد كان آخر العنصر الفني البارز من الأسرة الرحبانية التي تشكلت عبر والده عاصي وعمه منصور، فقد رحل، وبذلك انتهى التواجد المباشر لهذه السلسلة الفنية الرفيعة.
أعمال زياد، بطابعها الساخر والنقدي، كانت ولا تزال تلهم الحركات الاحتجاجية والمثقفين، خصوصاً بين الشباب الذين يجدون فيها صوتاً مسؤولاً عن التعبير عن قضايا المجتمع.
زياد الرحباني أوقف الزمن عن كتابة فصله، لكنه لم يوقف الأبجدية. وتركة من الموسيقى الساخرة، المسرح الساخر، الفكر الثائر ما زالت متّقدة.
![]() |
| الاعمال الفنية الخالدة |
مشاكل زياد الرحباني مع أسرته، وخاصة مع والدته فيروز وشقيقته ريما
1. خلاف مع فيروز بسبب تصريحات سياسية (2013)
في عام 2013، أدلى زياد في مقابلة مثيرة للجدل بتصريحات عن ميول والدته السياسية، قال فيها إن فيروز كانت "معجبة" بعدة شخصيات سياسية مثل حسن نصر الله، والقذافي، وستالين، وحتى هتلر وجمال عبد الناصر. هذه التصريحات أثارت غضب فيروز وشقيقتها ريما، التي اعتبرت أن ما قاله يُعد "اجتهادات زيادية" ولم يُوافق عليه من قبلهم.
إثر ذلك، رفضت فيروز محاولات الصلح، بما في ذلك تدخلات من شخصيات سياسية محترمة، واستمرت القطيعة حوالي سنتين إلى ثلاث سنوات.
![]() |
| خلافات زياد الرحباني |
زياد أوضح لاحقاً أن أصل الخلاف والتصريحات لم يكن شخصياً بحتاً، بل يعود إلى كيفية إدارة الأعمال من قبل شقيقته ريما كمديرة أعمال والدته.
وفي إحدى المقابلات ذكر أن ما فعله تم دون الرجوع إليه، خصوصاً نشر ألحانه على صفحة فيروز على فيسبوك دون إذنه، وغياب توزيع حقوق مناسبة للأعمال.
في عام 2018، أكد زياد أن العلاقة مع والدته قد عادت إلى طبيعتها، مشيراً إلى أن الخلاف كان نتيجة سوء تفاهم وتصرفات من دائرة الأعمال، لا بينه وبين فيروز مباشرة.
وأوضح أن الصلح جاء بعد مكالمة هاتفية اتبع فيها "حيلة" كانت والدته تستخدمها، أي الاتصال دون أي كلام، وانتظار أن تبادر هي بالكلام. وعندما بدأت في الحديث، قال لها، "حمد لله بالسلامة" ثم التقيا وتم تصفية الأجواء.
2. خلافات مع عائلة الرحابنة حول الحقوق
بالإضافة إلى الخلافات مع والدته، أشار زياد أيضاً إلى وجود نزاعات بين أبناء عمه منصور الرحباني وفيروز بشأن حقوق موسيقية وإنتاجية تتعلق بالأعمال القديمة.
كما نُقل عن زياد أن إدارة صفحة فيروز الإلكترونية ارتكبت أخطاءاً بحق أسرة الرحابنة، ولم تحترم حقوق المؤلفين.
اقرأ ايضا مقال أصل المنمنمات العربية فن الترف والدقة في صفحات التاريخ
اقتباسات مميزة لزياد الرحباني
كان زياد الرحباني يمتلك قدرة نادرة على أن يُحوّل لحظة، شعوراً، أو مفارقة، إلى قول ينبض بالحياة. من أهم أقواله:
"أليس في كل ثانية من الحياة، إنسان يضحك؟ إذن في الأرض ضحك متواصل."
"حائرٌ أنا بين أن يبدأ الفرح وألاَّ يبدأ، مخافة أن ينتهي."
"الإنسان متى عرف الحقائق سقط عن سرير الأحلام."
"صرت أخاف أنْ أطيل النوم، كي لا يذهب الجميع وأظل وحدي.
"في دنيانا يا أمي لا يوجد فستان بشع ما دام لكل فستان واحدة تُحب أن ترتديه."
"طرق السفر يقف عليها أناس كثيرون لا يبكون ولا يضحكون، إنهم مسافرون."
"كانت أحاديث السهرة تدور... اسهروا كما تسهر الحيطان، لا تتكلموا عن شيء، وانظروا بعضكم إلى بعض علّ الوجوه تتحدث."
التراجع الصحي والنهاية الحزينة
في الأشهر الأخيرة، عانت حالته الصحية بشدّة، وقد تكشّف أنه كان بحاجة إلى زراعة كبد لكنه تردد في الخضوع للعملية، رغم الدعم والجهود المبذولة، تاركاً أسرته وأصدقائه في حزن شديد.
توفي زياد الرحباني في 26 يوليو 2025 في بيروت عن عمر ناهز 69 عاماً.
أبرز تفاصيل الجنازة
بدأ موكب الجنازة يوم الإثنين 28 يوليو 2025 من أمام مستشفى خوري في الحمرا، حيث احتشد الآلاف منذ الصباح الباكر حاملين صوره وباقات الورود، في مشهد عبّر عن مشاركتهم الحزينة في وداعه.
صاحبت الموكب أصداء أغانيه عبر مكبّرات الصوت، وسط قرع أجراس الكنائس ونثر الورود والأرز، فيما رافق الموكب مشهد التصفيق والزغاريد والتشجيع.
مرّ الموكب عبر شارع سبيرز وحي الأشرفية وصولًا إلى بلدة المحيدثة في بكفيا، حيث أقيمت صلاة الجنازة في كنيسة "رقاد السيدة"، ثم وُري الثرى في المقبرة العائلية.
حضور فيروز النادر والمعبّر
كانت لحظة وصول فيروز إلى الجنازة من أكثر اللحظات تأثيراً، حيث حضرت لأول مرة علناً منذ سنوات طويلة، مرتدية لباساً أسود ونظارات داكنة، وأحكمت الصمت والحزن على ملامحها أثناء مشاركتها في مراسم التشييع.
![]() |
| فيروز وابنتها ريما |
تواجدت إلى جانب ابنتها ريما الرحباني، ووجهت رسائل صامتة مليئة بالمشاعر، بينها باقة ورد كبيرة تحمل عبارة: "إلى ابنى الحبيب.. فيروز".
مشاركة فنية وشعبية واسعة
ظهر عدد من أبرز الفنانين، من بينهم كارمن لبس التي دخلت الكنيسة باكية ومقيمة لوداعه بحرقة، ومُنحت المشهد بعداً إنسانياً مؤلماً.
كما شهدت الجنازة مشاركة شخصيات سياسية بارزة، مثل رئيس الحكومة نواف سلام، إضافة إلى نجوم الفن اللبناني كالنجمة ماجدة الرومي، راغب علامة، نجوى كرم، وكارول سماحة، في تعبير جماعي عن تقديرهم لموسيقاه ومسرحه.
زياد الرحباني - تقدير رسمي وتقليد وطني
منحت الدولة اللبنانية الفنان الراحل وسام "كومندور من وسام الأرز الوطني"، خلال مراسم الجنازة، تقديراَ لمسيرته الفنية البارزة.
وُصف رحيله بـ "خسارة ثقافية كبرى"، حيث نعى الرئيس اللبناني زياد باعتباره "ظاهرة ثقافية وفكرية كاملة" رحيله علّق الجدل الفني والسياسي، إذ ظلّ اسمه رمزاً لصوت الشعب الثائر وسخرية الوعي من منظومة الفساد والمناكفة الطائفية.
ختاماً، زياد الرحباني لم يخلُ من التناقضات عبقري موسيقى ومسرح، ثائر سياسي، عاشق هش، فنان منعزل. كان شخصاً صاخباً في فنه وهادئاً في معاناته الشخصية. ترك خلفه إرثاً متعدّد الطبقات، موسيقى، مسرحاً، شعْراً، سياسة.
قُدّر له أن يُحييه الأجيال من جديد في زمن الاحتجاج والمقاومة.
رحل زياد الرحباني، لكن صرخاته الموسيقية والمسرحية ستبقى تسكن وجدان لبنان والعالم العربي، كذكْرى لصوت لا يخشى الصمت ولا يتوسل الاعتذار.




